تبدأ القصة كل عام مع قرب دخول فصل الخريف في صمت بيولوجي دقيق. فيروسات الإنفلونزا، وبخاصة من نوعي A وB، تغير من نفسها بخطوات صغيرة، تحويرات جينية لا ترى بالعين، لكنها كافية لتجعل من مناعة الإنسان التي اكتسبها في العام الماضي درعاً مثقوبة هذا العام. هكذا تنشأ سلالات جديدة، مثل تلك التي ترصدها منظمة الصحة العالمية لموسم 2025-2026: سلالة H1N1 من فكتوريا، وسلالة H3N2 من كرواتيا، وسلالة B/Victoria من النمسا. مزيج جديد، يعاد تركيبه كل موسم، ليبدأ سباق متكرر بين التطعيم والعدوى تنتشر فيها الشائعات والأخبار المثيرة وتتداخل الحقائق مع المعلومات المضللة ويصبح الفرد والمجتمع والنظام الصحي أكثر عرضة للمخاطر المتوقعة من انتشار عدوى الأنفلونزا.
الشتاء القادم يبدو أكثر حدة، وفقاً لتقارير المراكز الأمريكية للوقاية والسيطرة على الأمراض (CDC) ومنظمة الصحة العالمية. فبعد موسم شهد ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات العدوى بين الأطفال وكبار السن، تحذر التقارير من موجة أشد هذا العام، مدفوعة بانخفاض معدلات التطعيم في بعض الدول، وعودة النشاط الاجتماعي الواسع مع دخول فصل الشتاء. الأكيد أن الإنفلونزا ليست مجرد «نزلة برد»، كما يظن البعض، بل مرض يمكن أن يحدث التهاباً رئوياً حاداً، ويزيد خطر الجلطات، ويهدد حياة مرضى القلب والسكر والمناعة الضعيفة.
ولأن الفيروس لا يعرف الحدود، تنتقل العدوى من قارة إلى أخرى مع المسافرين والحجاج والطلاب، لتتحول أيام الخريف والشتاء إلى موسم اختبارٍ حقيقي لقدرة المجتمعات على الوقاية. في المملكة العربية السعودية، يتزامن هذا الموسم غالباً مع فترات ازدحام ديموغرافي مع مواسم الترفيه المختلفة ولعل أبرزها موسم الرياض وكما تنشط ويزداد الإقبال داخلياً وخارجياً للقدوم لأداء العمرة، مما يجعل الوقاية أولوية وطنية لا فردية تتطلب حرص ومشاركة الجميع.
الوقاية تبدأ بخطوةٍ واحدة مهمة: التطعيم، لأنه كما أثبتت الدراسات أقوى وسيلة علمية لتقليل خطر الإصابة والمضاعفات. تشير الدراسات إلى أن التطعيم يقلل الحاجة إلى دخول المستشفيات بنسبة تصل إلى 40% بين كبار السن، ويخفف من حدة الأعراض إن حدثت العدوى. لكنه للأسف لا يزال ينظر إليه من البعض على أنه غير مفيد، بل وربما يتجه البعض الآخر ليجعله السبب في العدوى نفسها سواء هذا أو ذاك النتيجة ضعف في الإقبال على أخذ التطعيم على الرغم أنه الفارق بين عدوى عابرة ومضاعفات تهدد الحياة.
ثم تأتي الخطوات البسيطة التي تحدث فرقاً هائلاً: غسل اليدين بانتظام، تغطية الفم والأنف عند السعال أو العطس، تجنب المصافحة أثناء العدوى، والابتعاد عن الأماكن المزدحمة لمن يشعر بالأعراض. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحدد، على مستوى المجتمع، حجم الموجة القادمة ومدى قدرتنا على كسرها قبل أن تبدأ.
الإنفلونزا ليست خبراً موسمياً عابراً ينسى بانتهاء الشتاء، بل مرآة لمدى وعينا الصحي وسلوكنا الجماعي. فكل إصابة يمكن تجنبها، وكل تطعيم يمكن أن ينقذ حياة. في عالم يتغير فيه الفيروس أسرع مما نتخيل، تبقى الوقاية هي اللغة الوحيدة التي نستطيع من خلالها أن نفهمه ونتعامل معه بها.
فحين نغسل أيدينا، نغلق باباً صغيراً في وجه وباء كبير، وحين نختار اللقاح، نمنح أجسادنا ذاكرة تذكرها كيف تدافع في المرة القادمة. إنها معركة صامتة، لا تسمع فيها أصوات البنادق، لكنها تحدد من سيكون بخير في صباح بارد من هذا الشتاء القادم!
نافذة:
ليست خبراً موسمياً ينسى بانتهاء الشتاء، بل مرآة لمدى وعينا الصحي وسلوكنا الجماعي، فكل إصابة يمكن تجنبها، وكل تطعيم يمكن أن ينقذ حياة، في عالم يتغير فيه الفيروس أسرع مما نتخيل