بدأت البذور مبكراً مع تجارب طموحة حاولت توظيف التقنية لتصحيح اختلالات السوق. تجربة «سايبرسن» في تشيلي مطلع السبعينيات كانت محاولة جريئة لابتكار غرفة عمليات رقمية تدير الاقتصاد الوطني لحظياً عبر شبكة اتصالات صناعية، لم تعمّر التجربة طويلاً لكنها تركت سؤالاً لا يزول: هل يمكن للتنسيق المعلوماتي أن يقلل الهدر ويرفع الكفاءة دون الوقوع في مركزية خانقة؟ لاحقاً أظهرت إستونيا بوجه مختلف أن الدولة قادرة على بناء مرفق عام رقمي يشبه الكهرباء والماء لكن للهوية والتوقيع والتبادل الآمن للبيانات. لم تكن إستونيا دولة اشتراكية، لكنها جسدت المبدأ: عندما تصبح البنية الرقمية حقاً عاماً، تنخفض تكاليف المعاملات ويزدهر الابتكار في الأطراف لا في القمة فقط.
على الضفة الأخرى قدمت الصين نموذجاً حاداً للسلطة الرقمية المركزية: عملة رقمية للبنك المركزي، منظومات واسعة للمدفوعات، وقدرة استثنائية على توجيه الاستثمار الصناعي نحو الرقائق والطاقة النظيفة وسلاسل الإمداد. هنا تظهر مفارقة الاشتراكية التقنية: كلما ازدادت قوة الدولة في التنسيق، ارتفع خطر الرقابة والتقييد، لكن أيضاً ترتفع قدرة المجتمع على تحمل الصدمات وبناء قدرات طويلة الأجل لا يجازف بها رأس المال قصير النفس. ولعل الولايات المتحدة، رغم لغتها الليبرالية، عادت هي الأخرى إلى سياسة صناعية صريحة عبر قوانين ضخمة في أشباه الموصلات والطاقة النظيفة والبنى التحتية، مما يكشف أن الحياد تجاه بنية الإنتاج لم يعد خياراً في عالم تنافسي مسلح بالبيانات.
في الجنوب العالمي برز مساران لافتان يربطان الشمول المالي بالملكية العامة للبنية. الأول هندي عبر India Stack وواجهة المدفوعات الموحدة UPI، إذ تحول بروتوكول عام إلى عصب ملايين المعاملات اليومية وخفض تكلفة الوصول للخدمات، مولداً آثار شبكة خدمت القطاع الخاص لكنها ظلت مبنية على ركيزة عامة. الثاني برازيلي عبر Pix الذي خلق بنية مدفوعات فورية شبه مجانية، فتح السوق للمنافسة وخفض ريوع الوسطاء. هاتان التجربتان تلتقيان في فكرة أن الدولة يمكن أن تصمم منصة قواعد لا منصة أعمال، فتترك الإبداع للسوق لكنها تحتفظ بالمفاتيح السيادية للبروتوكول المفتوح.
في أوروبا تتشكل مقاربة مغايرة تمزج بين التنظيم الصارم وبناء البدائل. السحابة ذات السيادة ومشاريع مثل GAIA-X تحاول منع احتكار البيانات من قبل عمالقة المنصات، والاتحاد الأوروبي يسن تشريعات مثل قانون الأسواق الرقمية والذكاء الاصطناعي لكبح القوة المنصّاتية. لكن ما يجعل المسعى أوروبياً بحق هو محاولة جعل البيانات كمنفعة مشتركة صناديق بيانات صحية وبحثية مشتركة، نماذج حوكمة تفتح الوصول للباحثين والشركات الناشئة بشروط عامة. إنه تخيل اشتراكي ناعم للملكية، ليست ملكية الدولة الصِرفة، ولا ملكية الشركات المغلقة، بل ملكية مشتركة تُدار بقواعد شفافة.
هناك أيضاً خط ثالث يأتي من القاعدة لا من القمم: تعاونيات المنصات. تجارب برشلونة في الاقتصاد التعاوني الحضري، وعدد من منصات العمل التشاركي المملوكة للعمال، تسعى لإعادة توزيع القيمة على المساهمين الحقيقيين في المنصة. نجاحها كان متفاوتاً أمام ضغط رأس المال المغامر، لكنها قدمت مفهوماً عملياً: إذا كانت البيانات والعمل الجماعي هما الوقود، فالملكية يجب أن ترافقهما وإلا أعاد الاقتصاد الرقمي إنتاج اللامساواة بواجهة أكثر بريقاً. في ألمانيا، حيث التمثيل العمالي في مجالس الإدارة ثابت مؤسسي، تُناقَش اليوم صيغ لتمثيل أصحاب البيانات أيضاً، أي إن امتلاك السهم لم يعد الوحيد المؤهل لصوت على الطاولة.
الاشتراكية التقنية ليست فقط منصات ومدفوعات؛ إنها أيضاً منطق جديد لتخصيص المخاطر. في أزمات المناخ وسلاسل الإمداد، تبين أن الاستثمار الخاص وحده لا يوفر السعة الاحتياطية أو الابتكار عالي المخاطر الذي نحتاجه. لذلك تعود الدولة مُمولاً أول للبحث المتقدم ومشترياً أول للتكنولوجيات الوليدة، من اللقاحات إلى البطاريات والهيدروجين الأخضر. هذا التموضع لا يمنع السوق، بل يضبط أفقه الزمني ويربطه بأهداف عامة: الحياد الكربوني، أمن الغذاء والدواء، وتوطين المهارات. هنا تتقاطع التجارب الإسكندنافية في ربط الرفاه بالتقنية: رعاية اجتماعية قوية، استثمار عام في التعليم والبحث، وسوق تنافسي محكوم بقواعد توقعات طويلة الأجل.
لكن لكل عودة ثمن. أكبر مأزق في الاشتراكية التقنية هو التوازن بين التنسيق والكثرة. كلما اتسع التنسيق خف التنوع، ومعه تنخفض القدرة على التجريب غير المتوقع الذي يغذي الابتكار. ثم إن تراكم البيانات لدى جهة واحدة، حتى لو كانت عامة، يخلق مخاطر أخلاقية وسياسية هائلة من التمييز الخوارزمي إلى المراقبة. الحلول المعقولة تتجه نحو «فدرلة» البيانات والبنى: بروتوكولات مشتركة، تخزين لا مركزي، معايير مفتوحة، ومؤسسات وسيطة تدير حق الوصول وتُراقَب هي نفسها ديمقراطياً أو عبر تشريعات مواكبة تتطور بسرعة. هنا تبدو تايوان مثالاً ملهماً في إشراك المجتمع عبر أدوات الحوكمة المفتوحة والمنصات الحوارية لصياغة السياسات، مما يجعل التقنية أداة لتوسيع المجال العام لا لتقليصه.
يتصل السؤال أيضاً بتوزيع مكاسب الذكاء الاصطناعي. إذا كانت الخوارزميات ستضاعف إنتاجية قلة وتزيح مهناً واسعة، فلا بد من آليات إعادة توزيع جديدة تتجاوز الضرائب التقليدية: حقوق مجتمعية في بيانات القطاع العام، صناديق ثروة خوارزمية تستثمر ريوع النماذج في مهارات السكان، واتساع مفهوم الخدمة العامة ليشمل سحابة وطنية، حواسيب فائقة الوصول، ونماذج لغوية مفتوحة بموارد عامة. عند هذه النقطة يغدو النقاش حول دخل أساسي أقل مركزية من نقاش خدمات أساسية رقمية تضمن قدرة الجميع على الإنتاج والمنافسة في اقتصاد معلوماتي.
التعليم والمنافسة عنصران حاسمان في نجاح أي نسخة من الاشتراكية التقنية. التجارب التي ازدهرت جمعت بين قاعدة بشرية مُمكَّنة رقمياً وبين أطر سهلة لدخول السوق. الهند لم تكن لتنجح في UPI دون موجة هوية رقمية وتعليم رقمي واسع. إستونيا لم يكن لها أن تبني دولة رقمية دون ثقافة ثقة تشريعية وتقنية. والولايات المتحدة لم تكن لتستعيد سياسة صناعية ذات أثر لولا عمق منظومة البحث والجامعات وريادة الأعمال. لذلك فإن التقنية هنا ليست بديلاً عن الإنسان بل مضروباً له، والاشتراكية ليست إلغاء للمنافسة بل ضبطاً لحدودها كي لا تلتهم المجتمع.
في النهاية، العودة نحو الاشتراكية التقنية هي عودة إلى بوصلة الاقتصاد، ليس غاية مستقلة، بل أداة لخدمة غايات عامة تُعرَّف سياسياً وأخلاقياً. حين نعامل البيانات كبنية تحتية لا كغنيمة، ونبني بروتوكولات عامة تتيح للملايين أن يبتكروا فوقها، ونؤسس مؤسسات رقابية ديمقراطية على من يملك الخوارزميات، نكون قد انتقلنا خطوة من اقتصاد المنصات المغلقة إلى اقتصاد المنفعة المشتركة. وبين نموذج الدولة المهيمنة ونموذج السوق المتروك، ثمة طريق ثالث يتشكّل: دولة منصة، مجتمع قادر، سوق مفتوح على قواعد عادلة. هذه ليست يوتوبيا، بل خلاصة تجارب موزعة من تالين إلى تايبيه، ومن نيودلهي إلى برازيليا، ومن بروكسل إلى أوستن، تقول إن التقنية حين تُدار للصالح العام يمكن أن تُعيد وصل ما انقطع بين الكفاءة والعدالة، وتفتح الباب لعقد اجتماعي رقمي لا يترك أحداً خارج الشبكة.
حين نعامل البيانات كبنية تحتية لا غنيمة، ونؤسس مؤسسات رقابية على من يملك الخوارزميات، نكون قد انتقلنا من اقتصاد المنصات المغلقة إلى اقتصاد المنفعة المشتركة.