الذنب القانوني واضح المعالم: فعل محدد، دليل ملموس، حكم قابل للتنفيذ، أما الذنب الإنساني فهو فضاء غير محدود، يتشكل من نية الإنسان، ووعيه، وتأملاته بعد أن تنكشف نتائج أفعاله.
قد ينال أحدهم البراءة القانونية، ولكنه يبقى عالقًا بين الشعور بالخطأ والاعتراف الداخلي بانعدام الكمال، ولنضرب في هذا السبيل مثالا، حيث إن هناك قضية في القانون المدني تم تبرئة سيدة من تهمة التشهير، ولكنها شعرت بذنب لازمها طوال حياتها؛ لأنها تعلم يقينًا أن كلامها أثر في سمعة شخص بريء رغم حكم البراءة، وبالمقابل قد يُدان آخر وهو بريء، كما يحدث في بعض قضايا الدفاع عن النفس، حيث إن القصد يكون دفاعيا بريئًا في غالب الأحيان.
في هذا الفارق يكمن العمق الفلسفي للعدالة؛ أن القانون يقيس الظاهر، ولكن الضمير يقيس الباطن، ومن هنا تنشأ الأسئلة الكبرى: هل يمكن لأي نظام أن يكون كاملاً دون مراعاة الإنسان في جوهره؟، وهل يكفي الحكم على الفعل، دون النظر إلى نية الفاعل وإرادته؟، وهل العدالة التي لا تعترف بالضمير سوى نظام بارد، يفقد جزءًا من رسالته الإنسانية؟.
القانون بصفته منظومة للحياة الاجتماعية، لا يمكن أن يتجاهل الأخطاء البشرية، ولهذا وضعت آليات للتصحيح والمراجعة والنقض، على سبيل المثال، قضايا الطعن بالنقض بالمحاكم العليا تُظهر كيف يمكن تعديل الحكم وفق المستجدات، حتى بعد صدور الحكم الابتدائي وتأييده من الاستئناف، ولكن الضمير الداخلي لا يحتاج لتأييد من الاستئناف، ولا يفتح قضيته إلا أمام صاحبه، ولا يكتفي بالتسويات الشكلية.. إنه محكمة لا تعرف النوم، ولا تقبل المساومة، ولا تسجل أحكامها إلا في وجدان الإنسان، ومن منظور بعض الفلاسفة، يمكن القول إن الذنب الإنساني ليس عبئًا فحسب، بل أداة للنمو والوعي؛ فما لا يحاسب به القانون يمكن أن يحاسب به الضمير، ويعلم الإنسان درسًا أكبر من أي نص أو حكم.
الذنب الإنساني يربط بين الفرد ومجتمعه، بين الفرد ونفسه، ويذكرنا بأن العدالة ليست مجرد أحكام، بل مسؤولية مستمرة تجاه الحق والحقيقة والضمير، وربما العدالة الحقيقية ليست في أن ندين أو نبرئ، بل في أن نذكّر الإنسان بإنسانيته قبل أن نحاسبه على فعله.