الفلسفة ليست ترفًا كما يظن البعض، بل هي عملية تنظيم للعقل قبل أن تكون تنظيرًا للحياة. إنها تعيد ترتيب الفوضى الذهنية التي تسببها السرعة والتكرار، وتمنح الإنسان القدرة على رؤية العالم بعيون أكثر وعيًا واتزانًا. من دون الفلسفة، يصبح العقل مثل آلة بلا توجيه، تتغذى من الصور والمحتوى السريع وتنسى التفكير النقدي الذي يحمي الإنسان من السطحية والتشتت.
الرأسمالية الحديثة لم تكتف بتغيير أسلوب عيشنا، بل أعادت تشكيل منظومة القيم نفسها. صار النجاح يقاس بالمظاهر، والهوية تبنى من الخارج لا من الداخل. تحت ضوء التقنية وشاشة الصورة، تلاشت الحدود بين الحقيقي والزائف، حتى بات الإنسان يعاني من اضطراب قيمي ونفسي لم يسم بعد. يعيش بلا مبادئ متناسقة، فيفقد التوازن بين ما يعتقده صوابًا وما يمارسه فعليًا. هذه الفجوة بين الفكر والسلوك هي أخطر ما يصيب النفس، لأنها تنتج شعورًا دائمًا بالتيه واللا جدوى.
الفلسفة هنا ليست كتبًا على الرف، بل فن العيش بعقل منظم ووجدان متزن. هي التي تعلمنا كيف نفكر قبل أن نحكم، وكيف نفهم قبل أن ندين، وكيف نصغي للآخر دون أن نذوب فيه. في كل لحظة توتر أو سوء فهم أو صراع داخلي، هناك جذر فلسفي خفي ينتظر الاكتشاف: ما القيمة التي انتهكت؟ ما المبدأ الذي اختل؟ ما السؤال الذي لم يطرح بعد؟ بهذا المعنى، الفلسفة ليست هروبًا من الواقع، بل محاولة لفهمه بطريقة أعمق.
الإنسان بلا منظومة فكرية واضحة يعيش دائمًا في رد فعل، لا في وعي فاعل. ومع تعقد الحياة وتعدد المؤثرات، لم يعد كافيًا أن «نواكب العصر»، بل يجب أن نفهمه. وهنا يأتي دور الفلسفة في إعادة بناء المعنى داخل الإنسان: أن تعيد إليه علاقته بنفسه، وأن تنظم عواطفه، وتهذب طريقته في التواصل مع الآخرين. فالتفكير العقلاني لا يعني البرود، بل هو عاطفة منظمة بعقل ناضج، يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت، ومتى يصالح ذاته قبل أن يصالح غيره.
كثيرون يعتقدون أن الفلسفة لا تطعم خبزًا ولا تسد حاجة مادية، لكنهم في اللحظة ذاتها يبحثون عن المعنى، والاتزان، والسلام الداخلي. يبحثون عن فهم لذواتهم وللعالم، وعن طريقة تعيد ربط العاطفة بالعقل. وهذا بالضبط ما فعلته الفلسفة عبر العصور: أنتجت أشكال الوعي التي تحولت في ما بعد إلى علم وأدب ودين وفن. كل ما نحياه اليوم من مفاهيم حول التفكير الإيجابي أو الذكاء العاطفي أو تطوير الذات هو نتاج فلسفي في ثوب جديد.
نحن لا نحتاج إلى فلسفة تعقد الحياة، بل إلى فلسفة تبسطها وتعيد ترتيبها. إلى فكر يعيد للإنسان اتزانه حين يفقده، ويمنحه لغة يتحدث بها مع نفسه قبل أن يتحدث مع العالم. فالفلسفة ليست في الكتب فقط، بل في كل موقف نختار فيه أن نفكر بدل أن ننفعل، وأن نفهم بدل أن نحكم. هي فن البقاء متزنًا في عالم مضطرب.