كلّنا يعلم أنّ من مهامّ الفلسفة التقليل من حصريّة الوهْم ومُواجَهة فوران الرغبات الجارفة، والإضاءة على متون الجرأة والتمرُّد والثورة، وذلك من خلال ندائها الوجودي الذي يَحتكِم إليه المُبدعُ الحرّ المُعبِّر عن لسان الحضارات عندما تَصمت الألسن، والمُحفِّز لروح الوعي عندما يضعف التفكير. وفي ضوء ذلك يبدأ بالحفر والتحليق بعيدًا، ذلك أنّ في روح الإبداع مُجاوَزةً للأُفق الخجول المسطّر والمحدود. والحال هذه، كيف يَنتظم الفهمُ في عيون المُبدِع؟
الفرادة هي الماهيّة في تحقُّقِها
لا جدال ولا مُماراة أنّ كلَّ حكم هو علامةٌ أو عَرَضٌ من الأعراض ويستطيع الفيلسوف من بين أدواره الشاملة أن يَضْطلع بدَورِ المُحلِّل النفسي الذي يَكشف عن اللّاوعي الثّاوي خَلف الأعراض، ذلك أنّ ليس هناك من حقائق عامّة، فنحن نترحّل دائمًا عن المنابت ونتجوَّل بين مجموعة من الأفكار والتصوّرات والتأويلات. وفي إطار ذلك ندخل ضمن «المنظوريّة اللّامتناهية» أو في «لانهائيّتنا الجديدة» (Notre nouvel infini ou leperspectivisme infini) على حدّ قول نيتشه الذي أَعلن في كتابه «أفول الأصنام» عن عدم وجود حقيقة مُطلقة وقد تكون الحقيقة فكرة لا معنىً لها.
وهنا يبدأ تعليل التمجيد المحمَّل بضمور القدرات العقليّة وقصور الإجابة وتهيئة العدّة التي تُبرِّر فشلَ محاولة القبض على المعنى أو العجز عن تحقيقه، بمعنىً آخر تَبدأ إعادةُ الاعتبار لأهميّة الفشل وضرورته، ظنًّا منّا أنّه إعادةُ تموضُعٍ لصورةِ التفكير وثَورتِه، وفُرصةٌ للكشف والانطلاق نحو مُسايَرة الهزائم اللّطيفة وغير اللّطيفة مع الاقتناع المقنّع أنّ ذلك لا يَعني بابًا للخنوع واليأس. وما هذا الأمر سوى ترداد للأزمة التي تُشير إلى أنّ في الإخفاقِ نَخسر شيئًا ونَربح أشياءً أخرى، غافلين عن نقطةٍ مهمّة هي أنّنا نَغرق في بقعة الخسارة الكاملة كوننا لا نَملك شيئًا لكي نَربحه في المقابل، ومَن يَهنأ بعمليّة الربح هذه هو الوعي البائس والتعيس.
من المعلوم أنّ الاجتهادَ يتقوَّم بالقياس، والقياس له نوازِعُه الساكنة وأنظمتُه المُبرمَجة وتقنيّاتُه الجاهزة لضمان الوصول إلى ما يُمكن أن نسمّيه الراحة المطمئنّة أو الإنجاز المُدبَّر. وهذه المعايير والخلاصات هي عدّة الإنسان السويّ. أمّا المُبدع فيبقى دائمًا مُتعبًا لأنّه يُغمّس واقعه بالقلق والهَمّ والحزن…قد تكون العزلة أوّل سلاحٍ مَعرفيّ يتسلّح به، هذه العزلة التي تقيه من وحشيّة المُجتمع، حيث لا توجد فيها خيانة كما جاء على لسان الفيلسوف ألبير كامو.
نظرًا لتعدُّد أوجه العزلة سأطرق بخفّة وعَجَلَة ثلاثة أبواب منها فقط، وهي الأبواب المتمثّلة بالحزن والظلام والفراغ المرسَل.
أ- هدايا الحُزن
يُطالعنا الفيلسوفُ الصينيّ لاوتسو في بداية كتابه «Tao- tö King» (Voir: Lao Tseu, Tao- tö King,Gallimard, 1967, p.11) أنّ باب الدهشة أو الإعجاب ما هو إلّا الحفْر العميق في العتمة أو ما يُمكن أن نسمّيه تقتيم هذا التعتيم (obscurcir cette obscurité). وهذه الدهشة تعني مُفاجأةَ الفكر بما لا يتوقّع التفكير فيه، أو انحجاب المعنى عنه وجعْله مُربكًا على الفهْم. لكنْ لمَ هذا التقتيم أو هذا الاحتضان لجاذبيّة الحُزن وإلامَ يُفضي؟
من المعلوم أنّ الإبداعَ يُنسَج على غير منوال الإجماع ومن دون احتذاءٍ بمفهومٍ أو بمكوِّن. وكلّ الذين لَمعوا وتوهّجوا عانوا كثيرًا. اعتَبر أرسطو في كتابه «فنّ الشعر» أنّ المأساةَ تُناسِب الأرواحَ العلويّة.. والكوميديا تُناسِب أذواق العامّة. وإذا كان الامتيازُ الحقيقي أو العظمة الحقيقيّة من نصيب المأساة الخاصّة بالأرواح المُميَّزة، فالحُزن ضروريّ ومتأصّل لدى المُبدعين. بتعبيرٍ آخر، ربّما على المُبدِع أن يعيشَ الألمَ كحاجةٍ مُلهِمة. وهذا ما نتلمّسه عند دوستويفسكي بقوله: «اللّهمّ لا تَحرمني من مُعاناتي»، على اعتبار أنّ أمان الراحة يُفرش على سرير الحزن، أو كما يقول الروائي الأمريكي هرمان ملفيل (Herman Melville) «الحزن نارٌ تضيء عُمقَ النَّفس ومن خلالها نبدأ برؤية الأشياء بصورةٍ مُختلفة وكأنّنا نلامس جوهرها». كما أَظهر إريك فروم العالِم النفسانيّ الشهير أنّ مَن لا يمرّ بخبرة الحُزن والمُعاناة لا يُمكن أن يَنفعل ويَستجيب للعالَم بالطريقة الصحيحة والعميقة، وأكّد على ذلك أيضًا الشاعر الفرنسي أنطونين أرتو بقوله: «ما أَبدع مُبدِعٌ ولا رَسَمَ رسّامٌ ولا نَحَتَ نحّاتٌ… إلّا وهو يَغرف من نبْع الحزن العميق ومن ألمِ التجربة التي مرَّ بها».
ب-الظلام ذلك البَرق الساطع
لا ننسى رائعة المفكّر اللّبناني ميخائيل نعيمة «أغمض جفونك تبصر» (أغمِض جفونك تُبصِر خلف الغيوم نجوم/ أغمض جفونك تبصر تحت الثلوج مروج/ أغمض جفونك تبصر في الداء كلّ الدواء/ أغمض جفونك تبصر في اللّحد مَهد الحياة) وما تحمله سكينة الظلم من وعْدٍ بالأمل والعطاء والشفاء والحياة. وإذا كانت رواية العالَم تعتمد على حبكة الخفوت أو التعتيم، فمن الطبيعيّ أن نرى أو أن نتحسَّس أنّ كلّ الأشياء تَغرف من هذا المحتوى. لا يغيب عن بالنا أنّ رمزيّة الظلام تحمل معاني أعمق من مجرّد غياب الضوء، قد تكون الاحتضان للعزلة والتضخيم للعواطف والاستكشاف للأبعاد الميتافيزيقيّة والنفسيّة التي تؤثّر على فهمنا للوجود والإنسان.. قد يكون الظلام هو عالَم المجهول أو الغموض، غير أنّه يَخلق فضاءً من التشويق. هذا ما يَظهر لنا عند الكثير من الفنّانين والأدباء الذين تناولوا الجانب المُظلم من التجربة الإنسانيّة.. على سبيل المثال إدغار ألان بو وماري شيلي، ولعلّ لوحات كارافاج ورامبرنت فان راين…. أفضل شاهدٍ على تقنيّة (clair obscur) وما يَنجم عنها من تركيباتٍ دراميّة تُجسِّد التركيبةَ القائمة بين الغموض والعُمق… وأيضًا ألَم تكُن لوحةُ الرسّام الهولندي فان جوغ «اللّيلة المرصَّعة بالنجوم» تمثيلًا لقوّة الأمل المتوقّدة من حلكة الظلام. كما نَشعر أيضًا أنّ وراء لوحات الفنّان التشكيلي ماجريت تقصُّدًا بهزْمِ العادات الثقافيّة الاختزاليّة (réductionnisme)، وذلك من خلال تحليلها إلى أجزاءٍ أبسط منها. وهكذا نلاحظ أنّ في العادات البصريّة المُرتبطة بالإشارة، ثمّة هدنة تُواكِب المستقرّ العقلي الذي نَركن إليه وتحلّ مكان الشعور الحقيقي بالوجود، وخير مثال على ذلك لوحة «إمبراطورية الضوء» لـ «ماجريت» التي تُجسِّد مشهدًا متناقضًا يَجمع بين منزلٍ غير مُضاء في شارعٍ مُظلم يُضيئه مصباحٌ بضوءٍ خافت وتعلوه من فوق السماءُ الزرقاء القابضة على المشهديّة كلّها. هذه اللّوحة تَجمع بين مُفارَقَةِ اللّيل والنهار وكأنّها تَقلب موازين طبيعة الواقع، وهذا الأمر يَعكس فلسفةَ ماجريت السرياليّة الغامضة والمُثيرة للجدل. وكأنّ هذا التضلُّع من اللّوحة يأتي ردًّا على قول نيتشه في أنّ التميُّز أو التفوُّق ما هو إلّا البرق الساطع من عُمق الغيوم السود.
ج-الفراغ المرسَل
إنّ العالَم ليس كيانًا بعيدًا عنّا، فبينه وبين الإنسان مساحة من الفَهم، وهذه المساحة هي اعترافٌ للأفكار، وهذه الأفكار ليست سوى الإرث الإنساني أو الثروة المُشتركة بين قابليّات الكائنات. بين الكائن والمكوّن واللّاكائن واللّامكوّن والمعرفة واللّامعرفة (Lao -Tseu, ibid, p. 98) يَدخل وهْمُ العُمق التفسيري وتتعثّر قبضةُ الإمساك على المعنى. لنأخذ مثالًا على ذلك لوحة «مربّع أبيض على أبيض» للفنّان والمٌنظِّر الطليعي الروسي كازمير ماليفيتش؛ مراد القصد منها إظهار صدق الشعور الخالص من خلال استدعاء مساحة للأصل المكوّن وعدم العودة إلى سرابيّة العُمق والحَجْم والسمات الأساسيّة المتأصّلة في اللّون، وهكذا نرى أنّه أَبقى منها شكلًا هندسيًّا أبيض يتهادى مع ألوان السكينة، وأضافَ إليه وهْمَ الحركة من خلال الوضعيّة الانعطافيّة المائلة. وما رمزيّة فراغ المربّع سوى الاعتراف بغياب الموضوع أو التحرُّر منه. وهذا ما دَفعه إلى القول «لقد تجاوزتُ حدود السماء الملوّنة… أَسبح في هاوية الحريّة البيضاء، اللّانهاية أمامي….».
في الختام، يبقى أن نقول إنّ تحقّقَ المعنى ونضوجَه عند المُبدع يتمّ من خلال نموّ مَسار التفرّد الذي يشغل المقام الإبداعي الخاصّ بفطريّة الكائن، ولكنّ بلوغَ أقصى درجات الإبداع يبقى هو الهمّ الذي يَشغل مخيّلته، وربّما لن يستطيع إشباعَ نوازعه المُترنّحة بين الضوء والعتمة.
*أكاديميّة مختصّة بالفلسفة من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية افق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.