الفكر المتشدد ظاهرة عالمية ظلت على الدوام هاجسا مقلقا للدول وصناع القرار. ودائما ما تطرح تبعات الفكر المتشدد على التراث الأدبي والثقافي للشعوب ولكن هذه التهمة ينقصها الحياد والموضوعية، فمن الصعب اتهام ثقافات الشعوب وموروثاتها بأنها تقف خلف ظاهرتي التطرف والتشدد في الأفكار والمواقف. وحين نتهم شخصية من التراث أو مدرسة دينية أو معتقدا ثقافيا أنه ينتج فكرا متشددا، نقدم رؤية اختزالية لا تقدم حلولا منطقية لظاهرة التشدد.
دعونا نعود للوراء لأول ظاهرة متطرفة نشأت في التاريخ الإسلامي وهي فرقة الخوارج التي ارتبط اسمها بالتكفير المبالغ فيه، وتوظيفه كسلاح سياسي وأيديولوجي لدرجة تكفير شخصيات بارزة من التاريخ الإسلامي عرفت بالتقى والورع ورفعت معها شعار «لا حكم إلا لله». وهو الشعار الذي ارتبط بالخوارج بداية ظهورهم بعد معركة صفين تحديدا، واستخدم هذا الشعار ذريعة لنفي الحكم البشري بكل أشكاله. ويمكن القول إن فرقة الخوارج بسلوكها المتطرف أول جماعة في التاريخ الإسلامي، تطبق آلية العزلة النفسية والجسدية لأعضائها.
قبل الخوارج كان مجرد نطق الشهادتين يعد إعلانا لدخول الفرد دائرة الإسلام ويعامل بالتالي على أنه مسلم وعضو حقيقي في الأمة الإسلامية دون أي تعقيدات ولكن مع نشأة الخوارج اكتسب مفهوما «التكفير» و«الإيمان» دلالات ذات بنية معقدة وأصبح حتى المسلم الورع التقي عرضة للتكفير في أي لحظة من حياته. نشأت فرقة الخوارج خارج سياق المجتمع وعاش أفرادها نوعا من التنظيم الداخلي الذي يحقق العزلة النفسية والجسدية ومن هنا اكتسب أفرادها أفكارا معادية للمجتمع.
لعل أهم دراسة تتناول ظاهرة التطرف كتبها الباحث الأمريكي «كاس سنشتاين» في كتابه «الطريق إلى التطرف». وحسب سنشتاين «عندما يجتمع أشخاص متشابهون في الرأي والخلفية فإن النقاش بينهم يزيد من التشديد على وجهات النظر المشتركة، وهذا يعرف بمفهوم «استقطاب الجماعة»، فهو يؤكد أن فصل الأعضاء عن بقية المجتمع -جسديا ونفسيا- سيسهل تشكيل جماعة متشددة يمر فيها الفرد برحلة الانفصال، أي ترك العالم القديم والاندماج الذي يعني ميلادا جديدا داخل الجماعة التي ليس بالضرورة أن تكون جماعة دينية. فالفكرة المتشددة يمكن أن تتمخض حول نادٍ رياضي أو فرقة غنائية أو نظرية علمية أو هدف سامٍ كحماية الأرض من التلوث. بمعنى أن التطرف ليس محصورا في ثقافة أو دين محدد، بل ظاهرة إنسانية عالمية ترتبط بآليات نفسية واجتماعية أكثر من ارتباطها بالموروثات الثقافية أو الدينية.
السر يكمن في العزلة النفسية والجسدية وهي آلية تتبعها أكثر الأخويات (Brotherhood) حول العالم، والتي انتشرت تحديدا في بعض الجامعات الأمريكية على هيئة تجمعات طلابية أو نقابات مهنية، نظام الأخوية (Brotherhood) يعد أحدث الآليات لخلق الفكر المتشدد، فالأخوية وإن كانت تهدف ظاهريا إلى تعزيز الأخوة والصداقة بين الأعضاء وبناء شبكات دعم متبادلة بينهم، ولكنها تكسب الأعضاء هوية وانتماء مميزين ضمن جماعة ذات رموز وشعارات وطقوس خاصة، وبالتالي تخلق هوية جديدة قد تصادم هوية الفرد الوطنية وانتماءه لمجتمعه عبر ما تتيحه من بيئة مغلقة أو شبه مغلقة ما يسهل حدوث الاستقطاب وتعزيز الهوية الجديدة للفرد، وعبر ما تقدمه للعضو من شعور بالتميز والاصطفاء. فالتطرف ليس نتاج دين أو ثقافة بعينها بل نتاج بيئة فكرية مغلقة تقصي المختلفين وتعزز الأفكار والمعتقدات المشتركة.
ظاهرة الفكر المتشدد وما ينتج عنها من أعمال عنف وتطرف يفترض دراستها وتفكيكها داخل سياقاتها الاجتماعية والنفسية بدلا من البحث عن «عدو ثقافي» أو «نص متشدد» وتحميله المسؤولية كاملة، فالخطر يكمن في المساحات المغلقة، سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو رقمية، فهي تمثل بيئة خصبة لنمو التعصب والتشدد وتسمح له بالتكاثر في الظل.