 
                 
هذه القاعدة تفترض أن القياديين ليسوا معصومين من الخطأ، بل تعني أن القياديين الحقيقيين يتخذون القرارات الصائبة في (معظم الأحيان) بفضل سلامة حكمهم، وحدسهم القوي، وقدرتهم على استيعاب وجهات النظر المتنوعة قبل اتخاذ القرار النهائي. إنها قاعدة تختصر الذكاء العملي والنظرة المستقبلية، ويمكن تطبيقها في مختلف مجالات الحياة، لأنها جوهر التفكير القيادي المتزن.
وعند الحديث عن الحدس السياسي ودقّة التقدير، يمكن القول (إن هذه القاعدة تكون على صواب كثيرا) انطبقت على مواقف عديدة، خصوصًا فيما يتعلق بمآلات المشهد الأمريكي في عهد ترمب.
قبل عامٍ كامل من الانتخابات، كان حدسنا واضحًا تجاه فوزه، حتى إننا هنأناه مسبقًا بالفوز، وهو ما بدا مستغربًا لكثيرين آنذاك، لكن بالنسبة لنا كان الأمر محسومًا، إذ كنا نتعامل معه وكأنه الرئيس القادم، والانتخابات مجرد إجراء شكلي. لكن هذا ليس موضوعنا بل ما يثير التأمل أكثر هو مقال نُشر في نوفمبر 2020 بعنوان «علاقتنا بأبناء عمنا اليهود (2)»، والذي يمكن للمتابع أن يظن لو قرأه اليوم في أواخر 2025 أنه كُتب حديثًا، فهو مقال يثير الغرابة كأنّه عابر للزمن، لما يحمله من تشخيص دقيق للأوضاع في المنطقة، وتوصيف للعلاقات العربية الإسرائيلية، وأن المملكة لن تُقدم على التطبيع دون إقامة دولة فلسطينية، إضافة إلى طرح حلول عملية للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي.
في ذلك المقال، دعونا إلى الاستفادة من يهود أمريكا ليكونوا جسرًا بين العرب والإسرائيليين، لما لهم من موقع فاعل في الساحة الأمريكية والإسرائيلية على السواء. والمفارقة أن ما طرحناه آنذاك انعكس لاحقًا في سياسات ترمب، إذ استعان بعددٍ من يهود نيويورك، مثل ويتكوف وكوشنر، كوسطاء في ملف فلسطين وغزة، وكأنّ نصيحتنا وجدت طريقها إليه دون علمنا – كما يقول التعبير الأمريكي الشهير: «I didn’t know he was listening» (لم أكن أعلم أنه كان يستمع).
تحدثنا مرارًا عن يهود نيويورك، فهم يتمتعون بقدرات تفاوضية عالية، ونفوذ كبير داخل إسرائيل، حتى إن أي رئيس وزراء إسرائيلي لا يمكنه معاداتهم أو تجاهل دعمهم. كما يتميزون بقدرٍ من الانفتاح والمرونة الفكرية يفوق كثيرًا تيارات التشدد في الداخل الإسرائيلي، ما يجعلهم محورًا مؤثرًا في أي عملية سلام واقعية.
جميل أن نُطبّق قاعدة «أن تكون على صوابٍ كثيرًا» في تحليلاتنا واستشرافنا للأحداث، فهي قاعدة تُعلّمنا دقة الحكم وسلامة القرار.
لكن المؤسف تجاهل هذه القاعدة الذهبية (أن تكون على صواب كثيرًا) في بعض الإدارات، حيث يحيطون أنفسهم بدائرة من الذين يشبهونهم في التفكير، ويكررون ما يعرفونه مسبقًا دون أن يضيفوا قيمة جديدة أو أفكارًا مختلفة. هؤلاء يمنحون المسؤول راحة نفسية زائفة، إذ يسمع منهم صدى أفكاره لا صوت الحقيقة أو الرأي الصائب. غير أن الإدارة لا تُقاس بعدد من يوافقونك الرأي، بل بقدرتك على الإحاطة بوجهات النظر المختلفة، والاستماع لمن يجرؤ على التفكير خارج الصندوق.
كثير من هؤلاء يتحدثون كثيرًا دون أن يقولوا شيئًا، ويعيدون «المعاد» بلا إبداع أو تحليل نوعي، فيُذكّروننا ببعض شركات الاستشارات التي تقدم دراسات جدوى متكررة عن المشاريع لا تخرج عن ثلاث جمل محفوظة: «قد ينجح المشروع نجاحًا باهرًا»، «قد يكون متوازنًا دون نجاح كبير»، أو «قد يخسر المشروع» وهي خيارات بديهية لا تحمل أي جرأة فكرية أو موقفًا مهنيًا واضحًا. كذلك بعض المحيطين: يعرضون أمامك الاحتمالات البسيطة التي يعرفها الجميع، دون تحليل إستراتيجي أو رأي محدد، وكأن دورهم مجرد ملء فراغ لا أكثر.
والأسوأ من ذلك، أن بعضهم لا يناقش الأفكار، بل يستهلك وقته في مناقشة الأحداث أو الأشخاص. وهذا انحراف خطير في طبيعة الفكر الإداري؛ فـمن يناقش الأفكار يمتلك القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وبالتالي يكون «صائبًا غالبًا»، أما من يناقش الأحداث فهو متأخر بطبيعته لأنه يتعامل مع الماضي، في حين أن من يناقش الأشخاص فهو – كما قال روزفلت =«صاحب عقل صغير»، إذ قال مقولته الشهيرة:
«العقول العظيمة تناقش الأفكار، العقول المتوسطة تناقش الأحداث، أما العقول الصغيرة فتناقش الأشخاص».
ثم تأتي فئة أسوأ – يمكن تسميتها صانعو إسعاد المسؤول – وهم أولئك الذين لا يعرفون الفرق بين النصيحة الصادقة والتملق. هؤلاء لا يملكون رأيًا حقيقيًا، بل يتلونون حسب ما يرغب المسؤول عنهم. أذكر أنني حضرت قبل سنوات اجتماعًا في مكتب أحد المسؤولين، وقبل الاجتماع أتى أحد هؤلاء يسأل مدير المكتب: «إلى أي رأي يميل المسؤول اليوم؟» حتى إذا دخل عليه، ردد أمامه ما يوافق توجهه! إنها ثقافة التزييف المهني التي تُغرق الإدارة في الوهم وتمنع التقدم.
بعض هؤلاء المحيطين يظن أن الجبن نوع من الدهاء، بينما هو في الحقيقة عجز عن اتخاذ الموقف. ويُروى أن أحد المسؤولين البريطانيين دعا صديقه لإلقاء خطاب سياسي عام. وبعد أن ألقى المسؤول الخطاب، قال له صديقه متعجبًا: «لا أدري إن كنت مع الموضوع أو ضده!» فابتسم المسؤول وأجاب: «هذا بالضبط ما أريده».
لكن الحقيقة أن هذا ليس ذكاءً، بل جبن – تردد مغلف بالحذر المفرط. فالمسؤول الذي لا يتخذ موقفًا لن يحقق إنجازًا، مثل لاعب كرة يحتفظ بالكرة طوال المباراة، فلا يخسرها، لكنه لن يسجل هدفًا ولن يصنع مجدًا.
النجاح الحقيقي لا يولد من الخوف أو المجاملة، بل من الجرأة في اتخاذ القرار، مع المخاطرة المحسوبة، والقدرة على أن تكون صائبًا في أغلب الأحيان ــ كما تقول قاعدة أمازون الشهيرة: «Are Right. A Lot».
من المدهش أن مبدأ «أن تكون على صوابٍ كثيرًا» الذي تتبناه شركة أمازون كقاعدة للقيادة الناجحة، له ما يشبهه حتى في الموروث الشعبي العربي، وخصوصًا في ثقافة البدو. فقد كان بعض أفخاذ القبائل يُستشارون في القضايا الكبرى، ليس لأنهم الأذكى أو الأجرأ، بل لأن آرائهم غالبًا ما تكون صائبة. وكان يُقال عنهم: «فيهم بَخت» – أي أن الحظ أو الفراسة تصحبهم في قراراتهم. والواقع أن هذا «البخت» ليس سوى سلامة تقدير، وحدس دقيق، واتزان فكري يجعل رأيهم أقرب للصواب في أغلب الأحيان.
بمعنى آخر، فإن ما كانت تسميه الأجيال القديمة بختًا، هو ما تصفه أمازون اليوم بـ«Are Right. A Lot»، أي القدرة على أن تكون مصيبًا أغلب الوقت.
وعلى المستوى الفكري والسياسي، يتجلى هذا المبدأ أيضًا في مدرسة الواقعية الجديدة (Neorealism) التي أسسها أستاذنا كينيث والتز، والتي تعد مدرستنا الأكاديمية. فعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أثبتت هذه المدرسة قدرتها الاستثنائية على التنبؤ الدقيق بمسار الأحداث الدولية والسياسية، حتى إن كثيرًا من التطورات التي نعيشها اليوم كانت متوقعة ومتسقة تمامًا مع قواعدها التحليلية. هذا ليس انحيازًا أكاديميًا، بل دهشة عقلية من مدى دقة هذه النظرية في قراءة توازنات القوة، وصراعات المصالح، وسلوك الدول الكبرى.
لهذا، عندما نقيم الكفاءة السياسية أو الأكاديمية لشخص ما، فإن مدى فهمه وتطبيقه لمبادئ الواقعية الجديدة يشكل لدينا معيارًا أساسيًا. فمن لا يدرك قواعد النيورياليزم ولا يستوعب آلياتها في تفسير السلوك الدولي، يصعب أن يكون فاعلًا في العمل السياسي الحقيقي، بل قد يتحول إلى أحد «المتفلسفين» الذين يناقشون الأحداث بعد وقوعها أو يحللون الأشخاص كما تفعل مجالس السوالف، لا كما تفكر مراكز القرار. هؤلاء لا يصنعون السياسة، بل يعلقون عليها.
أما من ينتمي فكرًا إلى مدرسة كينيث والتز، فهو يمتلك الأدوات الذهنية لتوقع الأحداث قبل وقوعها، ويحتاج فقط إلى المهارة والخبرة ليترجم تلك الأدوات إلى رؤية عملية وإبداع. هذا ما يميز النجاح الحقيقي، أن يكون مبنيًا على فكرٍ صلبٍ ومنهجٍ علمي، لا على الانطباع والمجاملة. أي يكون (على صواب كثيرا).
في النهاية، على المسؤول أن يختار فريقه ومساعديه بعناية:
هل يريد مجموعة تردد أفكاره كصدى ظله، وتمنحه راحة مؤقتة دون تقدم حقيقي؟ أم يريد عقولًا تضيف إليه، تتحدى تفكيره، وتجعله «على حقٍ كثيرًا»؟
فالفرق بين الاثنين هو الفرق نفسه بين إدارةٍ تُكرر الماضي، وقيادةٍ تصنع المستقبل. الفلسفة الزائدة قد تُدهشك مؤقتًا، لكن القرار الصائب هو ما يُنقذك دائمًا.