هذا التحول الذي صمم لتسهيل الإجراءات وتوحيد المرجعية، غيّر عمليًا طبيعة الإجازة المرضية نفسها. فبعد أن كانت تستند إلى تقييم مهني لحالة المريض الصحية، أصبحت في نظر كثير من الموظفين مبررًا تلقائيًا للغياب، لمجرد دخول العيادة وصدور مشهد مراجعة من المنصة. تحول المعنى من «إجازة مرتبطة بالحالة الصحية» إلى «حق مكتسب بالزيارة».
الأطباء وجدوا أنفسهم فجأة في قلب هذا التحول. قرار منح الإجازة لم يعد قائمًا على تقديرهم الطبي، بل أصبح مرتبطًا بتوقعات المراجع ونظام إداري يعطي مشهد المراجعة قوة قانونية. بعض المراجعين يلوّحون بالشكوى عبر الرقم 937 عند رفض منح الإجازة، ما يضع الطبيب في موقف لا يحسد عليه: إما التمسك برأيه الطبي في مواجهة ضغوط قد تترتب عليها مساءلات، أو التنازل عن سلطته المهنية لتفادي الصدام.
هذه المعادلة الجديدة تركت آثارًا واضحة في بيئة العمل الصحية. العيادات ازدحمت بمراجعات هدفها الرئيس الحصول على إجازة لا العلاج، وأصبح وقت الطبيب يستهلك في طلبات إدارية أكثر من التركيز على الحالات المرضية الحقيقية. ارتفعت نسب الغياب في بعض القطاعات، وتراجعت ثقة جهات العمل في قيمة الإجازات الطبية. أما الطبيب، فقد تقلصت مساحة تقديره المهني، وصار دوره أقرب إلى تمرير إجراء إداري مفروض لا اتخاذ قرار مبني على تقييم طبي حقيقي.
في المقابل، تتبنى أنظمة صحية عديدة حول العالم ممارسات متوازنة تحمي حق المريض وتمنح الطبيب سلطته المهنية. فبعض الدول تسمح للموظف بإجازات قصيرة من دون تقرير طبي لتقليل الضغط على العيادات، بينما تخضع الإجازات الأطول لتوثيق ومراجعة واضحة. دول أخرى تربط الإجازات المرضية بمنظومات وقائية تدعم الصحة النفسية والعمل المرن، وتستخدم أنظمة إلكترونية لضمان الشفافية ومنع التلاعب. الفكرة ليست في تقييد المريض أو الطبيب، بل في بناء منظومة عادلة تحفظ الحق وتضبط الممارسة في الوقت نفسه.
أما محليًا، فإن اعتماد مشهد المراجعة الطبية كوثيقة نافذة منح الإجازة المرضية طابعًا إداريًا صرفًا، ففقدت شيئًا من معناها الطبي الأصلي. ضاعت الفروق بين من يحتاج فعلًا إلى الراحة للاستشفاء وبين من يلجأ إليها كمخرج مؤقت من ضغط العمل. ومع تزايد هذه الحالات، بدأ النظام الصحي نفسه يدفع الثمن من حيث الضغط التشغيلي وتراجع الثقة وازدياد التوتر بين الأطباء والمراجعين.
الإجازة المرضية في جوهرها وسيلة لحماية صحة الفرد والمجتمع، وليست أداة للضغط الإداري أو وسيلة للتغيب غير المبرر. وإذا استمر هذا المسار من دون مراجعة متوازنة تحفظ للطبيب سلطته وللنظام مصداقيته، فإن المعنى الأصلي للإجازة الطبية سيتآكل تدريجيًا، لتتحول من أداة استشفاء إلى عبء إداري يرهق الجميع.
لم تعد الإجازة الطبية قرارًا مهنيًا خالصًا، بل أصبحت مساحة يتقاطع فيها تقييم الطبيب مع سلطة النظام، فيما تتراجع القيمة الطبية أمام ثقل الإجراء الإداري. وهنا يكمن التحدي الحقيقي:
كيف نعيد لهذا القرار معناه، من دون أن نفقد مزايا التنظيم أو نرهق المريض أو نضعف مكانة الطبيب.