كان هناك مقعد فارغ بجانبي لم يطل الأمر حتى جاء رجل في الخمسين، ملامحة داكنة، ووجهه يحمل تعابير تعب مألوف من الحياة، جلس دون أن يطلب الإذن، كأن المكان يعرفه.
سألني دون أن ينظر إلي: «تصدّق أحيانًا كثيرة أحس إني غريب في بيتي”. صوته لم يكن مكسورًا، لكنه على ما يبدو كان يحمل طبقة ثقيلة من الخذلان.
أكمل وكأنه يتحدث لنفسه: «كنت أظن البيت هو المكان اللي أقدر أخلع عند بابه همّي وألبس راحتي وأتنفس للأسف الشديد اليوم حتى الجدران تصير ضيّقة، والكلام ثقيل، والقلوب مليانة ضجيج أكثر من المدينة نفسها».
التفت نحوي لحظة، عيناه غائرتان فيهما سهر قديم، لم ينتظر مني ردًا، كان يريد أن يُفرغ شيئًا فقط.
تركته يفضفض ليقول: «تغيّرت العلاقات، مو لأن الناس سيئين، لا والله، بس لأن كل واحد خايف». «خايف يقول كلمة تنفهم غلط. خايف يفضفض وينقلب الكلام عليه خايف حتى من اللي يحبهم».
هزّ رأسه ببطء وفي عينيه اعتذار عن شيء لم يفعله، لم أتفوه بكلمة وكنت أصغي إليه باهتمام، واصل حديثه : «أخوي أحبه، بس ما أقدر أقول له كل اللي فيني، أختي أقرب الناس، بس ما عاد تدري ما أمر فيه، الكلام صار سلاح، والسكوت درع، والثقة لعبة خطرة حتى عيالي أحسهم ما يبغون يسمعون، يمكن لأننا إحنا الكبار ما عاد لنا مكان في عصر متغير بكل ما فيه كل واحد مشغول بحياته واهتماماته، وإن زعمنا أن الحب موجود فهو مكسور، يختفي ورا الحذر والخذلان وقلة الاهتمام».
نظر للسماء، التي كانت رمادية وأضواء المدينة تملأ كل مكان تقريبًا.
استمر يقول: «اللي يصير مو خيانة، بس الناس فقدت الأمان الداخلي، الواحد يتآكل من داخله وينكسر بصمت».
ثم صمت، لفترة، شعرت فيها بأنه يراجع شريطًا داخليًا لا يخصني.
وقبل أن يقوم، قال: «بس مع كل هذا، لسه أؤمن إن فيه بيوت مازالت آمنة وفيه ناس وجودهم نجاة، بس تلقاهم بسهولة هذا صعب، مثلما تدور على ظلّ في صحراء».
حقيقة لم أجد ما أقوله له ليس عجزًا ولكن شعرت بأن قسوة الحياة أحيانًا أقوى وأبلغ مما سأقوله، لملم ما بقي له من الآهات وذهب بهدوء في مشهد تراجيدي عفوي يشبه نهايات الأشياء.
تركني هناك مع تأملاتي بين أفكاري ومع قلبٍ امتلأ بكلام رجل لا أعرف اسمه، لكنه ترك لدي انطبعا عن بعض من أعرفهم ومنهم أنا.