إن سمائي هي الأرض التي ولدنا عليها، وعليها سنموت، ولذا فإن هواجسي الميتافيزيقية ليست ناتجة عن صلاتي بالسماء بقدر ما هي ناتجة عن صلاتي بهذا العالم وبهذا الوجود. فجدلية تحقق الوجود وعدم تحققه هي مبعث قلقي وهواجسي ومن ثم غربتي في هذا العالم.
جدلية الثورة – الولادة والموت – الإحباط – المخاض – تخطي وتجاوز الواقع الظرفي عبر الإبداع التاريخي، ولدت عبرها غربتي. وإذا كان هناك بعد ميتافيزيقي في هذه الغربة. فهو ناتج عن المعاناة الاجتماعية والسياسية والذل الكوني. إنها إذن غربة من أجل الوطن والعالم والإنسان والميلاد الجديد.
الشاعر تلميذ للوجود والعالم منذ ولادته حتى موته. أما بالنسبة لي فأنا أتعلم من أبسط الأشياء وأنقاها إلى أعمق ما في هذا الوجود.
كتاب المطالعة الذي قرأناه في الطفولة وطرحناه جانبا أعود إليه أحيانا لا تعلم إليه ومنه من جديد.
الأصوات – الإشارات – الصرخات – الموسيقى الكلمات التي تزهر على شفاه الناس البسطاء والحكماء والأطفال. كلمات زرادشت وهوميروس والمتنبي ورامبو وايلوار.
الشاعر في نظري قميص هذا العالم وتلميذ وعاشق، يتعلم بقدر ما يبدع. لذا فإن معرفة لسان الآخرين والرحيل إلى كواكبهم الموحشة وأصقاعهم الغنية بالكنوز هي زاد الشاعر في هذا العالم.
الحضور التاريخي في قصائدي هو التراث الحي والجوهر الفاعل له. فمن خلال هذا الحضور التاريخي تمد الجزر الإنسانية جسورها إلى أرض المستقبل. ويصبح التراث في مثل هذه الحالة هو العبور الحضاري من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. كما أن انقسام الإنسان على نفسه لا يمكن رأب صدعه من دون إيجاد هذا الخيط الدقيق الحي القادر على الامتداد عبر وحدات الزمن. الثورة الشعرية والحضارية لا يمكن أن تتحقق دون إيجاد هذا الزمن المفقود.
فأنا بدأت أكتب الشعر منذ ولادتي ومجيئي إلى هذا العالم وكانت قصيدتي الأولى هي صرختي الأولى عندما رأيت النور وأنا في يد القابلة.
في قصيدتي «أحمل موتي وأرحل» استمرار لخطي الشعري، أنا أحمل موتي وأرحل دائما وأبدا، لذا فإن كل قصيدة جديدة أكتبها أو كل ديوان جديد هو ثمار جديدة أو هبات أو عطايا يمنحني إياها هذا الوجود الهارب أو الكابوس الذي أعيشه وكما قلت في إحدى قصائدي الأخيرة «محكوم بالإعدام: أنا مع وقف التنفيذ» و«عقوبتي: الحياة». هذا الحكم بالإعدام وهذه العقوبة هي دافع كتابتي الأول. الحرائق – الرحيل – الثورة _ الغربة _ الموت _ الحب هو ما أبحث عنه.
لهذا فإن استمرار خطي الجديد وصعوده نحو ذرى جديدة أمر طبيعي. لكن المسرحية الشعرية لا تعنيني ولا أفكر بها.
أن القصيدة – وهي أسمى أشكال التعبير الشعري – هي أرض ثورتي وولادتي وموتي. فلتضمر المسرحية لأني أفكر
في الأجيال التالية، أتوقع وأتمنى لهم مزيدًا من الاحتراق والصدق والالتصاق بقضايا الإنسان والإيمان بوجوده ضد اللا معنى والعبث والموت. ومزيدًا من الاقتراب من نار الشعر الأزلية الخالقة المطهرة، ونبذ اللحظات الزائفة من حياتهم والعودة إلى الينابيع الأولى للإنسان العربي خصوصًا والإنسان في كل مكان عامة.
1972*
* شاعر وأديب عراقي «1926 – 1999».