لا أريد أن أكون مؤرخًا أو ناقدًا أو أديبًا فقد يعرض لي كما يعرض لك أن نسأم التاريخ والنقد والأدب وأن نرغب في هذا الحديث الهادئ، المطمئن الذى لا يثير خصومة ولا جدالا وإنما يريح الناس ويعينهم على إنفاق الوقت إذا أخذوا فيه وتجاذبوا أطرافه كما يقولون. وأنا أملي هذه الأسطر وقد تقدم الليل وهدأ من حولي كل شيء إلا هذه الصراصير التي تتغنى في الحديقة غناء متقطعًا والأصوات تصل إلى عن بعد فلا أكاد أسمعها إلا حين أصغى إليها وإلا صرير القلم يمضى به صاحبي وهو يسمع ما أملى عليه، ثم يقف إذا انتهى به إلى حيث انتهيت من الإملاء وقد أنفقت يومًا طويلا ثقيلا تنقلت أثناءه بين ما أحب وما أكره من أعمال منها المنتج الخصب، وفيها العقيم الجدب وأشهد أن احب شيء إلى وقد خرجت من هذا اليوم الثقيل الطويل ودخلت في هذا الليل الهادئ المطمئن أن أنسى ولو إلى حين يومي وما كان فيه، وأن أشغل نفسى عنه بما يلهى ويريح ولى إلى ذلك سبيلان: فإما أن اقرأ أو أن استعرض ما قرأت، وقد كان بين ما قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصتان تمثيليتان نشرتهما مجلة (الأليستراسيون) الفرنسية في أسبوعين متوالين أو متقاربين على أقل تقدير وهاتان القصتان تختلفان في الموضوع وتختلفان في النتيجة وتختلفان في الأسلوب والقيمة الفنية ولكنهما على اختلافهما هنا كله تثيران نوعًا واحدًا من التفكير ولعلهما تنتهيان آخر الأمر إلى نتيجة واحدة.فأما إحداهما فتقص أمر امرأة زوجها أهلها من رجل لا تحبه فأذعنت واستقبلت حياتها الجديدة حابسة ساخطة لا تفهم زوجها ولا تطمئن إليه، وسافرت معه كأنما تساق إلى السجن ولكنها لقيت أثناء السفر شابًا أعجبها وأعجبته فأحبها وأحبته، وكانت لها وله صروف وخطوب حتى إذا عادت إلى باريس وانغمست في حياتها المألوفة أحست فتورًا في الحب واستكشفت أن حبها لهذا الشاب لم يكن إلا تعلة ولهوًا وسبيلا إلى إيقاظ قلبها النائم وإثارة عواطفها الراكدة حتى إذا استيقظ هذا القلب، وثارت هذه العواطف تبينت أنها تستطيع أن تحب زوجها بل إنها تحب هذا الزوج لولا أن هذا الشاب يحول بين هذا الحب وبين أن يزهر ويؤتى ثمره، فهي تبتسم لزوجها وتعبس لحبيبها وما تزال به تريد أن تصرفه فينصرف مضحيًا بنفسه وقلبه وحبه.وأما القصة الأخرى فتصور زوجين يحب كل منهما صاحبه أشد الحب ويؤثره على نفسه أشد الإيثار، ولكن أحدهما وهو الرجل مريض يخاف على نفسه الموت، وقد علم من امرأته أنها لن تحيا بعده، وأنها جادة إن مات في اللحاق به وهو يحبها، ويحرص على أن تعيش عيشة كلها سعادة ولذة ونعمة، وهو يريد إذا مات أن تتعزى عنه امرأته وأن تحيا من جديد فتحب وتجني ثمار الحب، وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل هذه الغاية، ولكنه يريد أن يتحقق آخرته قبل أن يقدم على هذه التضحية، فعرض نفسه على كبار الأطباء ويقضى هؤلاء في أمره بما كان يخاف، فينبئونه بأنه مرتحل عن هذه الحياة بعد قليل وإذًا فلا بد من التضحية. وهو لا يتردد بل يقدم عليها شجاعًا جريئًا فيكلف عشق امرأة تتردد على داره ويظهر الهيام بهذه المرأة حتى يخدعها من جهة ويثير غيرة امرأته وسخطها من جهة أخرى، ويمضى في تكلف هذا العشق إلى أبعد حد فيهجر داره ويقيم عند صاحبته، ويأبى على امرأته كل عودة أو أمل في عودة ثم يتم عمله هذا القاسي العنيف بالسفر مع صاحبته إلى ما وراء البحر. ولم لا ؟ أليس قد قضى عليه بالموت فيجب أن تكرهه امرأته قبل أن يموت حتى إذا مات لم تلحق به بل تعزت عنه واستقبلت حياتها في أمل ونشاط. وقد وفق فامرأته منصرفة عنه وإن لم تكن ميالة إلى استئناف الحياة الغرامية والزوجية وهي على كل حال لا تريد أن تموت ولا أن تلحق بزوجها ولكنه أراد شيئًا وأراد القضاء شيئًا آخر، فما كاد يترك وطنه حتى كذب الأطباء وعادت إليه صحته وقوته ونشاطه وقوي مع هذا كله حبه لأمرأته وحب صاحبته له، فيعود إلى فرنسا ولا يتردد في أن يضحي بهذه المرأة التي خدعها والتي آمنت بحبه وأنقذته من الموت ليستأنف الحياة مع زوجه وقد عاد إليها موفور الصحة مستكمل القوة. وتقبل صاحبته هذه التضحية فتنصرف كما انصرف الفتى في القصة الماضية.1929** أديب وناقد مصري ( 1889 – 1973)
Source link