ومع ذلك، من الإنصاف القول إن بعض البودكاست فعلًا أحدث فرقًا في الوعي الجمعي، وطرح قضايا حقيقية وساعد الناس على رؤية الحياة من زوايا جديدة. لكن كثيرًا منها تحول إلى مسرح كبير يؤدي فيه الناس أدوارًا تنظيرية لا تشبههم. هناك من وجد في هذه المساحة فرصة لتلميع ذاته، فبمجرد أن يُمنح مساحة للكلام، ينفجر بداخله شعور بأنه أصبح كل شيء في الحياة دفعة واحدة «العالم، المفكر، الفنان، الفيلسوف، الحالم، وحتى المتألم». يتحدث وكأنه عاش ألف تجربة في عام واحد، يروي سقوطه بلهجة المنتصر، يريد أن يُرى في صورة المتزن الذي فهم الحياة كلها، وأن يقدم نفسه كالذي تجاوز كل الأخطاء وصار معلمًا للآخرين. لذلك من المهم أن يُمنح كل إنسان دوره الحقيقي في الحياة، فليس شرطًا أن يكون كل مفكر قائدًا، ولا كل صاحب رأي ملهمًا، ولا كل فنان يجيد لغة الحوار. فلكل موهبة مجالها، ولكل صوت مقامه الذي يليق به، فبعض الأدوار تفقد جمالها حين تؤدى خارج مساحتها الطبيعية.
ولكن خلف بعض هذه الأصوات، لا تكمن معرفة ولا تجربة حقيقية، فقد صار الظهور هدفًا بذاته، حتى وإن لم يكن وراءه مضمون، حيث إن بعضهم يتحدث عن الصبر وهو لم يُختبر فيه، وعن الكفاح وهو وُلد في منتصف الطريق، وعن الوعي وهو لم يعرف نفسه بعد، وآخرون جعلوا من هذه المنصات وسيلة لتسويق الوهم، يبيعون الأحلام مغلفة بلغة تطوير الذات وبلغة الاستحقاق المزيف، ويقدمون وصفات سهلة للنجاح، كأن الحياة مجرد خطوات محفوظة. وينشرون مفاهيم مكررة عن الطاقة والتوازن والنوايا، بينما يعيش المستمع بعد كل حلقة بوهم مؤقت قد يتحول لأفعال غير واعية، مصدقًا ومؤمنًا بكلام مزيف. والأغرب من ذلك أن بعض الناس صاروا يستمعون لا للتعلم وزيادة الوعي، بل لِيملؤوا فراغ أحاديثهم اليومية.
وفي الطرف الآخر نجد من اتخذ من البودكاست ساحة لاعترافات غريبة يتفاخر فيها بسلوكيات سيئة، لكنه يقدمها للناس على أنها شجاعة وصدق، ويروون قصصهم الملتبسة بلهجة الواعظ، كأنهم يريدون تطبيع الخطأ باسم الجرأة، وهكذا اختلطت الأصوات وتاهت المعايير.
كل هذا جعلنا نعيش في زمن نسمع فيه أكثر مما نفكر، ونتأثر أكثر مما نحلل، ولأننا نميل بطبيعتنا إلى من يتحدث بثقة ويبدو لطيفًا في نبرته يجعل البعض متأثرًا بما يسمع، وهنا تأتي الحاجة إلى ما يمكن أن نسميه الصلابة الذاتية؛ أن نفلتر ما يصل إلينا. لذلك، المشكلة ليست في الفكرة، بل في من يتحدث ومن يسمع، فالميكروفون ليس عدوًا، لكنه سلاح ذو حدين، يخرج أجمل ما في الإنسان إن كان صادقًا، ويكشف زيفه إن كان متصنعًا. ومع ذلك لا يمكن القول إن البودكاست شيء سيئ، بل هو وسيلة عظيمة حين تستخدم بصدق ورسالة واضحة، يكون صوته امتدادًا لتجربة حقيقية، لا عرضًا لأنا متضخمة تبحث عن تصفيق افتراضي.
المستمع اليوم لم يعد بسيطًا أو ساذجًا كما يظن البعض، بل أصبح مستمعًا ذكيًا، يميز بين العمق والسطحية، ويكشف التناقض قبل أن تكمل الجملة. هناك عقول يقظة وآذان ناقدة لا تمر عليها الأخطاء بسهولة، ولهذا أصبح من الضروري أن نضع حدًا لمن يتحدث بلا وعي أو تأهيل، وأن نمنع عبث الأصوات غير المؤهلة قبل أن تفسد الذوق العام وتشوه الوعي الجماعي.
وأخيرًا، لا بد أن نعرب عن شكرنا وامتناننا العميق لوزارة الإعلام في المملكة العربية السعودية، التي تقوم بدور محوري في مراقبة المحتوى الإعلامي وتنظيمه وحماية الذوق العام. وجودها يمنح هذا الفضاء الواسع من الحرية صوتًا منضبطًا بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية، ويضمن أن تبقى الكلمة أداة بناء لا وسيلة هدم. نفخر بجهودها في تطوير المشهد الإعلامي ومواكبة هذا العصر بكل ما فيه من تحديات رقمية، وهي بالفعل نموذج مشرف للعمل المؤسسي الواعي الذي يصون الكلمة ويحفظ أثرها في مجتمع يستحق الارتقاء.