 
                 
ومن هذا المنطلق جاءت رؤية السعودية 2030 لتجعل من جودة الحياة ورفاه المواطن محورًا لكل برامجها ومبادراتها، مؤمنةً بأن العدالة السكنية ركيزة العدالة الاجتماعية، وأن التنمية لا تكتمل ما لم يُؤمَّن للمواطن مسكنٌ يليق بكرامته ويعزز انتماءه.
ولأن الحصول على السكن ظل أحد أبرز التحديات التي واجهت الأسر السعودية لعقود، فقد بادرت القيادة الرشيدة إلى ابتكار حلول متنوعة تمكّن المواطن من امتلاك مسكنه وفق قدرته ودخله، وفي مقدمة تلك الحلول برنامج «سكني» الذي يقدم باقات دعم تمويلي من صندوق التنمية العقارية، وبرامج للإسكان التنموي للفئات الأشد حاجة، إضافة إلى تسهيل اللوائح التنظيمية لتشجيع القطاع الخاص على البناء وزيادة المعروض السكني بجودة عالية وأسعار مناسبة.
هذه الجهود تنطلق من قناعة راسخة بأن الحق في السكن اللائق حق إنساني أصيل، أكدت عليه المواثيق الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، ورسّخته المملكة في النظام الأساسي للحكم (المادة 27) الذي يُعنى برعاية المواطنين وتوفير مقومات الحياة الكريمة.
وقد أسهمت هذه السياسات في تحقيق نتائج ملموسة، إذ ارتفعت نسبة تملّك الأسر السعودية للمساكن إلى %65.4 في عام 2024، لتقترب من المستهدف الوطني البالغ 70 % بحلول عام 2030. كما تجاوز عدد الأسر المستفيدة من الحلول السكنية 1.6 مليون أسرة منذ إطلاق البرنامج، وأتاح قطاع الإسكان خلال عام 2024 أكثر من 205 آلاف وحدة سكنية عبر مشاريع البيع على الخريطة، ووفّر 165 ألف قطعة أرض عبر منصة «سكني»، إلى جانب 50 ألف وحدة للأسر الأشد حاجة، فيما أودع صندوق التنمية العقارية 11.9 مليار ريال في حسابات المستفيدين.
ومع هذا التقدّم، برزت تحديات مرتبطة بالممارسات الاحتكارية لبعض ملاك الأراضي والشركات العقارية التي سعت لتعطيل التوازن في السوق عبر احتكار مساحات واسعة داخل النطاق العمراني، ما تسبب في تضخّم الأسعار وارتفاع الإيجارات بصورة غير مسبوقة. فقد تضاعفت أسعار الأراضي في الرياض من 240 ريالًا للمتر عام 2005 إلى نحو 4200 ريال في 2024، وارتفع مؤشر الإيجارات السكنية بنسبة 10.8 % خلال 2024 وفق بيانات الهيئة العامة للإحصاء، الأمر الذي انعكس على الأُسر ذات الدخل المتوسط وأدى إلى زيادة الأعباء المعيشية وعزوف بعض الشباب عن الزواج.
ولأن هذه الممارسات تُضعف العدالة الاجتماعية وتزيد الضغط على المرافق العامة بسبب التوسع العمراني العشوائي في الأطراف، فقد تدخلت الدولة بحزمة قرارات نوعية أعادت التوازن إلى السوق، من أبرزها: تعديل نسبة رسوم الأراضي البيضاء، ورفع الإيقاف عن أراضٍ متعثرة، وطرح مخططات سكنية بأسعار لا تتجاوز 1500 ريال للمتر، وتخصيص ما بين 10 و40 ألف قطعة أرض سنويًا، إضافة إلى تثبيت القيمة الإيجارية في الرياض لخمس سنوات للحد من التضخم السكني.
تلك القرارات جاءت بتوجيه مباشر ومتابعة شخصية من الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظه الله – لتجسّد رؤية متكاملة تجعل من القطاع العقاري رافعة اقتصادية تسهم بأكثر من 12 % من الناتج المحلي الإجمالي، وفي الوقت ذاته أداة لتحقيق العدالة السكنية وتكريس مبدأ الإنسان أولًا الذي تتبناه القيادة.
تنظيم سوق العقار ليس هدفًا اقتصاديًا فحسب، بل هو مسار لتحقيق العدالة والاستقرار الاجتماعي، إذ لا تُقاس قوة السوق بما يدرّه من أرباح، بل بما يبنيه من استقرارٍ أسري ومجتمعي. وهكذا، يعيد الإصلاح العقاري رسم ملامح العدالة الحديثة التي تمزج بين النمو والكرامة، وبين الازدهار الاقتصادي والحق في المسكن الآمن، لتظل المملكة نموذجًا تنمويًا يُوازن بين متطلبات السوق وحقوق الإنسان في الحياة الكريمة.